الغرباء مخلوقون من تراب وماء.. يتخللهم النور والهواء رغم بنيتهم الصلصالية.
الغرباء معجونون باللطف ومجبولون بالحياء.. عاطفتهم تسبق عقلهم.. وعقلهم يسبق فعلهم.. وفعلهم يسبق يأسهم.. ويأسهم أمر خيالي.
الغرباء مؤمنون.. يمرون بالحياة مرور الكرام كي يزحفوا منها نحو السماء.. لا يهمهم من الأرض إلا موطئ قدم.. وإحقاق حق.. وانكشاف أفق.. وتثبيت عدل.. وبراح توحيد.. وربما فنجان قهوة..
الغرباء راضون مرضيون.. يغنون دوما في عوالمهم الداخلية.. هم يعيشون في عالم موازٍ من الموسيقى المستمرة مسموعة كانت أم متخيلة.
الغرباء منعتقون من الانبهار والمبالغات.. حريتهم داخل نفوسهم لا خارجها.. لا تبهرهم الزخارف.. لا تلفت نظرهم الأشياء.. لا يقدسون الأشخاص.. بل يبنون الأفكار دوما.. ولكن دون عبادتها.
الغرباء يفرحون لرؤية غيمة.. كطفل يفرح بقطعة سكر، هم أيضا ينتعشون بمراقبة عصفور.. ويضحكون للعب قطة.. ويتنفسون بزراعة نبتة.
الغرباء يعتنقون الخفة.. يكرهون الاقتناء.. ويخشون من ثقل المتاع وكثرة الأشياء.. فلا تعنيهم صراعات البقاء طالما وجدوا ثمرة خفيفة تسكت جوع الجسد.. ولا تغريهم قتالات المال طالما لديهم ما يحمي كرامتهم من جنون القطيع واستعلاء الغباء.
الغرباء متوازنون رغم ميلهم نحو التحرر.. عاقلون رغم ميلهم نحو الجنون.. مفكرون رغم ميلهم نحو الشعور.. منضبطون رغم ميلهم نحو التفلت.. ثابتون رغم ميلهم نحو التحلل.. وجالدون لأنفسهم إن شعروا يوما أنهم قد مالوا نحو الميلين وتركوا المنتصف.
الغرباء متشبثون بالوسط.. متطرفون بنفورهم من التطرف.. هم أشد المكروهين من سكان أقصى اليسار وأقصى اليمين على حد سواء.. هم في معركة أبدية مع سكان الطرفين.. وهم أيضا خط الفصل في صد هجمات الطرفين عن بعضهما.
الغرباء صامتون في وقت الكلام العام.. متكلمون في وقت الصمت العام.. يكرهون التصفيق.. ويهانون إن زُجَّ بهم في أي صراع نفعي.
الغرباء شرسون في الدفاع عن حقوقهم.. ليس من أجل كسب الحقوق.. ولكن من أجل إقرار المبدأ فقط. هم يأنفون من ركوب موجات المجتمعات.. يتجاوزون النقد والحقد والشتائم.. ويستحون عند سماع المديح.. فيهربون.
الغرباء مستمرون مهما تعثروا.. يحزنون.. يبكون.. يصرخون.. يتعبون.. يخطئون.. لكنهم أبدا لا يصيبهم اليأس ولا يأكلهم الإحباط.
الغرباء يعرفون بعضهم بعضا.. ويحبون بعضهم بلا أسباب.
الغرباء يجدون بعضهم بسهولة وسط ضباب الاعتياد وعموم المنافع.. ويفرحون بصحبة بعضهم.. فرحة إنسان وجد إنسانا فوق سطح كوكب لا يحتوي إلا الصخور. وكل غريب منهم مرآة صدق لصديقه الغريب..
الغرباء هادئون.. لا تغريهم الانتماءات.. فهم ينتمون لله كعباد.. وللتراب كنشأة.. وللإنسانية كمبدأ.. هم خارج عبادة المسميات وأشد ما يثر سخريتهم حرب الانتماءات وبطاقة التسميات وتقطيع الأرض وفق حدود يتم تسميتها حسب الأهواء.
الغرباء بسيطون.. يفرحون لأسباب بسيطة.. يستمتعون بمتع بسيطة.. ويضحكون لأمور بسيطة.. لكنهم لا يبكون إلا بجبال من القهر.. أو بسقوط ورقة خريف.. أو ما شابه..
الغرباء يسمون الأشياء بمسمياتها الحقيقية.. حتى لو غضب منهم بقية الأعضاء في الجوقة البشرية.
الغرباء.. لهم وجوه نيرة وعيون حزينة.. لكنها مليئة بالحياة ومفعمة بالأبدية.
الغرباء.. قلة ضمن كثرة، ندرة ضمن غوغاء، لون مختلف ضمن بحر من سواد.. وصرخة عدل مستمرة عندما يعم الفساد.
الغرباء.. أتباع الأنبياء.. فطوبى لهم دائما..
طوبـــى للغربـــاء.
...............
((قضية الأستاذ غريب)) قصة قصيرة من مجموعة قصصية لم يتم نشرها بعد بعنوان "تحت المؤخرة".
رسوم القصة: المؤلف.